المشاركات الشائعة

الخميس، 28 أبريل 2011

كتبـــــــوا في درويــش.....


الكاتبة/ لميعة عباس



من الذكريات .. مع محمود درويش
(فاجأنا هنا الشاعر الطالع توّاً من فوهة الثورة) مع أن ساحة الشعر كانت ملأى بشعراء الحداثة البارزين، ولكن محمود درويش كان وكأنه يكتب بلغة جديدة غير لغتهم أو غير لغتنا، مما يزيدني فخراً واعتزازاً باللغة العربية التي لا حدود لتجددها، وكيف تفتح خزائنها لمن يبدع في تنسيق هذه الحروف المعروفة المصفوفة منذ ألفي سنة.
خرج محمود درويش للعالم العربي من سجون مضاعفة عن سجن الاحتلال وقيود الإقامة الإجبارية التي تستهلك معظم نهاره لإثبات وجوده، إلى المجتمع العربي الواسع ظاهرياً المقيد بألف قيد غير مرئي خرج ليصفعه أول سؤال لم يعرف كيف يجيب عنه.
- أأنت شيعي أم سني؟
كان يظن أنه عربي فقط، فإذا به يرى العروبة أغصان تتشابك وأسلحة تتعارك.
خرج محمود درويش من الأرض المحتلة وقد درس بمدارسها وقرأ بلغتها أهم الكتب العالمية المترجمة إلى هذه اللغة التي كانت إلى ما قبل عقود قليلة تعد لغة ميتة أو محتضرة قرأت لمحمود درويش أول شعره فشممت رائحة الخبز ورائحة القهوة في كلمات تبدو بسيطة.
أحنُّ إلى خبز أمي وقهوة أمي وتتابع إعجابي بمحمود درويش.. وكتب نثراً يوازي شعره جدّة، فأحببنا نثره وشعره.
ثم عرفته شخصياً في لقاءات مهرجان المربد في العراق بداية1970، وسيماً أنيقاً حاداً كان يبدو لي متعالياً ساخراً بمن حوله، ذلك أول انطباع لي عنه.
وعرفته في بيروت ومنظمة التحرير في عنفوانها وهي على حافة الخطر كانت أصوات المتكلمين في قاعة جمال عبد الناصر تصلني إلى مسكني في شارع عفيف الطيبي فأذهب بصحبة إحدى الصديقات إلى تلك القاعة المكتظة بالغليان، وأحياناً كثيرة يكون محمود درويش أحد الخطباء فيها، وأكثر قصائده كانت رثاءً وهو يودع بين فترة وأخرى رفيقاً عزيزاً، كان إلقاؤه صراخاً وكنت أقول في نفسي: آه لو يتعلم محمود درويش أن يلقي شعره بأقل حدة، فيجعلنا نحن نصرخ بدلاً عنه، وكيف يخرج كل هذا الهدير من هذا الجسم الناعم. كانت آخر صرخاته في تلك القاعة وهو يتوجه بها إلى صفوف المنتظرين على قائمة القتل من رفاقه:
أمهلوني سنةً واحدةً، وافترقنا مثل شظايا في العالم المتفجر، وكنتُ أنا أبعد تلك الشظايا، في آخر نقطة على اليابسة في أقصى جنوب غرب كاليفورنيا على المحيط الهادي في أجمل وأغبى مدينة في العالم (سان دييغو).
في هذه الوحدة القاحلة في جنةٍ خضراء لا يرى أهلها برداً ولا حروراً، أعيش منقطعة عن العالم، إلا من أخبار القتل والدمار، ليس لديَّ كل دواوين محمود درويش، ولا تصلني مجلة الكرمل التي يرأسها بجدارة محمود درويش. ليس لديَّ إلا ذكريات جميلة أقتات عليها.
لذلك لن أدخل ميدان النقد وأنا عزلاء، فما أكثر النقاد الذين كتبوا ويكتبون عن شعر محمود درويش ولن أزاحمهم في نظرياتهم وتحليلاتهم.
حسبي من محمود وحسبه مني أنني أحببته دائماً وأعجبت به كألوف القراء، واحتفظ منه بالجميل من الذكريات وبعضاً مما خصني به من كلمات حلوة، كان آخرها سنة 2002 في مهرجان برلين بألمانيا ونحن نستعد لصورة في صالة الفندق قال لي محمود: (أنا أقف الآن بجانب أنانا)... صرت أفتقد محادثة الأذكياء، وأراجع المواقف الماضية. قلت إنني أحببت محمود درويش، وتجنبته قدر الإمكان أو قل أنني أحببته بحذر، لأن هذا الوسيم الموهوب الذي يبدو كطفل مدلل له قساوة صيف بغداد، وتعبير الأطفال إذا ضجروا، وهياجهم إذا استاءوا، وقد صدق حين قال عن نفسه: وتكبر فيَّ الطفولةُ يوماً على صدر يومِ فما كبرت في محمود غير طفولته، وما غيرت من شكله السنون ظل جميلاً كما عرفته وطفلاً يكره القفص الذي يحبس فيه الطفل مع ألعابه، وليس له صبر على الصبر والإغضاء والمجاملة مع من تحبه من النساء، فهو طائر الحب الذي يكره العش وتفقيس البيض.
في لقاء شقيف الشعري بلبنان قبيل الاجتياح الإسرائيلي وكان أبو عمار يرعى ذلك اللقاء، وقد دُعيَّ إليه شعراء وزعماء الأحزاب السياسية، وكان لقاء تاريخياً حقاً.
دعاني أبو عمار للجلوس بجانبه في الغرفة الواسعة التي يصطف فيها المدعوون، ودعا الشاعر أمل دنقل للجلوس إلى جانبه الآخر وكأنه يستضيف العراق ومصر، وكان محمود يجلس في الجهة المقابلة لنا.
لم أكن أقصد والله أن أركز نظري على محمود درويش ولكنه كان دائماً أمامي، وأعترف أن لي عيوناً مراوغة تخيل لكل من حولي أنني أنظر إليه، استفدتُ من هذه الميزة أو هذا العيب أثناء مراقبتي الامتحانات، فكل طالبة كانت تتصور أنني أراقبها بالذات، هذا ما تعوّدت أن أسمعه من طالباتي وطلابي
فوجئت بمحمود يصرخ بي ويقول لي بحدّة:
- حاجي تتطلعي فيَّ.
فرد عليه أبو عمار فوراً:
- يعني تريدها تتطلّع فيَّ أنا؟
وأبو عمار يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.
بعد الاجتياح فارقتهم إلى قبرص، وهم رحلوا إلى تونس ودعاني أبو عمار إلى تونس ضيفةً عزيزة، نزل في الفندق ذاته محمود درويش، سلّمت عليه وكان بصحبته صديق.. دائماً.
لم يطل جلوسي لحظة، اعتذرتُ لأغادر، قال محمود:
- نحيي فيك خجلك، ونحيي انسحابك.
وفي لقاء سريع مثل هذا قال لمن معه وهو يستفزني:
- لميعة لو تكتب على باب غرفتها: Please disturb me في المرة الثالثة حين رأيته يجلس في صالة الفندق مع مجموعة ناولته قصاصة غير مهذبة من مسودة أبيات وجدتها بين أوراقي وفيها:
(إلى محمود درويش:
أزح يا حبيبي نظارتيك قليلاً لأُمعن فيك النظر
فما لونُ عينيك؟
هل للغروب تميلان أم لاخضرار الشجر
أُحبهما، تتعرى النجومُ
بغير سحابٍ أريد القمر
فو اللهِ من أجل عينيك محمودُ
أصبحت أعشقً قصر البصر)




 


قرأها محمود بسرعة وناداني قبل أن أغيب: تعالي..
قلت: - خير..
قال: - لماذا تنادينني (يا حبيبي) وأنت لا تقصدينها؟
قلتً: - هكذا أنادي كل أولادي.
وضحك الحاضرون فاشتفيت بمحمود.
بعد سنين التقيتُ بمحمود درويش في برلين في مهرجان برلين 2002 محمود الخارج من معركة مع الموت.. وحكى لي كيف قابل الموت وجهاً لوجه وكيف غلبه.. في اليوم الأول من لقاء برلين ألقى محمود درويش قصيدة كمن يروي قصة من ألف ليلة جديدة وكان هادئاً بلا ضجيج ولا صراخ، قصيدة من أجمل وأغرب ما يرد على خاطر بشر، أوحتها حادثة محزنة كالعادة امرأة حامل تقتل برصاص الجنود الصهاينة.
تتابع ما يأخذك محمود درويش إليه في هذه القصة التي تجسد كل المعاني السامية في الإنسانية وهو يخاطب الجندي القاتل وتتصاعد الأحداث التي لم تحدث ولن.. بعيداً عن فوضى الحماس وتتصاعد معها قصة شهرزاد. سلام لمحمود درويش.. ومتعه الله بالصحة.

يتبع....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق